دَرسُ اليوْم: كيفَ تـنـتـزعُ حـقـاً؟

     صُناع القرار في الدّولة الأردنية، وأبواقها الناعقة، و”سحّيجتها” المُـتمرّسون فطريّـاً على التصفيق ارتبكوا، فما يجري اليوم لا يستطيعون تعليقه على شمّاعة الوطن البديل والبعبع الفلسطيني، ولم يجدوا حيلة للرّبط بينه وبين فزاعة الأجندات الخارجية ضد الوطن، وما يحدث لم يتصادم أبداً مع معزوفة “الأمن والأمان”، ولا يمكن إدراجه تحت بند نيّـة تخريب البلد، وأيضاً أكذوبة التأثير على السياحة وطرد الاستثمارات كانت ستحوّلهم لأضحوكةٍ إذا ما روّجوا لها كما اعتادوا سابقاً لمهاجمة أي حراك إصلاحيّ، والتفسير الوحيد أن صاحب الظلّ الطويل لم يجد مُتسعاً من الوقت كي يُدرّبهم ويُعمّم بينهم رواياتٍ محبوكة بإتقان للردّ على هذا الإضراب، فتخبّطوا، تارة يتهمون المُعلمين بالاستقواء على الدولة، وتارة يقللون من شأنهم ويبخـّسون من جـُهدهم، وتارة أخرى يتباكون على مصير الطلبة وتسرّبهم وانحرافهم، وعلى مُستقبلهم الذي يضيع بسبب تعطيل المسيرة التعليمية!! إفلاسٌ ما بعده إفلاس، خاصة أن المستهدَف اليوم هو المعلم، هذه القيمة والرسالة التي نالت من هيبتها ومكانتها سياسات حكومية متعاقبة، ويتكالبون اليوم عليهم لشيطنتهم وكأنهم غرباء مشكوك في انتمائهم.

 

     كرت أصفر يرفعه المعلمون في وجه الحكومة وبرلمانها المتواطئ، فهم يطالبون اليوم بحقهم في العلاوة المبتورة لا أكثر، أسوة بأقرانهم من موظفي القطاع العام الأوفر حظاً منهم، بشقيهم العسكري والمدني، ومحاولات الحكومة التقليدية والبدائية لم تخرج إلى الآن من إطار التسويف والمماطلة والالتفاف عن الحق البواح، فحملتها الإعلامية التضليلية عبر الإذاعات المشوّهة وتلفزة “سكايب” رديئة البث والأقلام المدفوعة الثمن مسبقاً والمتحدثين الرسميين بمنطق ثقافة القطيع ومأسسة التخلف، كل ذلك لن يجلب إليها سوى الفشل، بل إن أثره كان عكسيّاً من خلال الازدياد المضطرد في استجابة المعلمين للإضراب والاحتجاج يوماً بعد يوم، ليعمّ الغالبية الساحقة من العاملين في مدارس المملكة، وليس أدلّ على هذا الفشل من الاستعانة بوزير مُـلتحٍ ذو ابتسامة دعويةٍ لامتصاص الغضب، أو اللجوء لدائرة الإفتاء كي تصدر فتوى تحريم الإضراب!! قمة السذاجة والسطحية والتي تعكس العقلية المتخلفة والمتخبطة التي يتحرك من خلالها المسؤول، والأكثر طرافة في انفعاله حين تجاوز في وعيده الحدود، وهدد باستدعاء المتقاعدين كبديل للمُضربين، أو حتى ما يُروّج عن نيّـة إنزال العسكر إلى المدارس.

 

     قضية المعلمين هي مثالٌ آخر من أمثلة الحقوق المنقوصة والتمييز بين المواطنين، فالعدالة الاجتماعية والمساواة غدت حلماً وهدفاً لا رجعة عنه، فلا يكفي صياغة جـُمل منمقةٍ في الدّستور حول مفاهيم المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات بينما الواقع مغايرٌ لذلك، الواقع يقول أن هناك محاباة لقطاع على حساب قطاعات، قطاعٌ يعتاش من ضرائب الآخرين على شكل مكرمات وقصور وسيارات وتأمين صحيّ محترم وتعليم مجانيّ لأبنائهم وأحفادهم داخل المملكة وخارجها، وقطاعات مهمّـشة ظلت صامتة طيلة عقود على ظلم صار عُـرفاً وتقليداً، وهي تسعى الآن جاهدة لإزالته واستعادة حقوقها ومساواتها بالآخرين. والمسؤولية أولاً وأخيراً على عاتق الحكومة وسياساتها المتعاقبة، فهي الملامة الوحيدة على الإضراب، وهي من يتوجب عليها أن تجد حلا للمسألة بدل التشويه المتعمد للحقائق، وخلط حابل الهيكلة بنابل العلاوة، وعليها أن تكف عن التعامل مع هذا الملف بمنطق ابويّ وتخجيليّ، وإغلاق مزاد الوطنيات الذي تسوقه عبر ماكنات إعلامها لإحراج هذه الشريحة الأكاديمية أمام الناس، فالمعلمون يرفضون تقسيط علاوتهم ومصرّون على موقفهم، كامل الانحياز لهم في حقهم البديهي، والكرة في ملعب المسؤول.

 

     يفتقد الأردن لرجالات دولة حقيقيين، من ذلك النوع الذي يضع خططاً وبرامجَ ورؤىً من شأنها النهوض الحقيقي بالمجتمع وتقدم المملكة ورفعتها، وليسوا كأولئك الذين يعتبرون مناصبهم الرفيعة فرصة ذهبية ومؤقتة لمزيد من الامتيازات والنفوذ، وقطاع التعليم بالذات يجب أن يحظى باهتمام رسميّ لا متناهي، فهو المصحّة التي تداوي تشوّهات المجتمع، وهو المصنع الذي ينتج كفاءات المستقبل الحقيقية وليست الشكليّـة التي ملأت جامعاتنا وأسقطت مكانتها وسمعتها سنة تلو سنة، وقطاع التعليم يستند لأمرين رئيسيين؛ المعلم والمنهاج، وكلما كان المعلم أكثر استقراراً ورفاهية كلما انعكس ذلك على عطاءه وتفانيه في أداء رسالته على أكمل وجه، وعلى الدولة التي تؤمن بديمومتها وتسعى لمستقبل زاهر أن تستثمر في المعلم كمشروع وطني طويل المدى ولا غنى عنه.

 

     أشهر قليلة وسيصبح هذا الإضراب مثالاً تضربه جوقة الحكومة عن الطريقة الحضارية لحلّ قضية المعلمين، مشدّدين على وجوب شكر الدولة لأنها هي من سمحت لهم بتأسيس النقابة أصلاً، ويبدأون بالمقارنة الخرقاء فيما لو حصل الشيء ذاته عند جيراننا الرجعيين جنوباً والتقدميين شمالاً وكيف سيكون تعاطي تلك الأنظمة بالحديد والنار، وذلك للتدليل على النعمة التي نجحدها، أشهر قليلة ويبدأ المصفقون بحمد صناع القرار على حكمتهم وكرمهم في الاستجابة لمطالب مربي الأجيال، طبعاً دون أن يغفل أولئك المصفقون أنها منن وعطايا بدل أن تكون حقوقاً مُنتزعة.

 

     على المعلمين التمسك بموقفهم حتى وإن احتاج الأمر إلى تضحيات، فالشق الماديّ والمعيشيّ من هذه المعركة صار على الهامش، والمتن هو كرامتهم وعزة نفسهم وصورتهم أمام الناس، فأي تسويات غير عادلة وملتفة على حقوقهم ستجعل منهم مثالاً لذليل خسر لصالح السلطة، وستكون ضربة تدمّر كل ما وصلوا له من إنجازات، وإن كان لا بدّ من خاسر في معركة عضّ الأصابع بين الطرفين فهو الحكومة، لأن الطرف الآخر قد ضجر الصراخ.

 

2 thoughts on “دَرسُ اليوْم: كيفَ تـنـتـزعُ حـقـاً؟”

  1. I dont know why, but we Jordanians -unfortunately- tend to attack who ever disagree with us, and in this matter in particular i really feel that all our reactions whether with or against the strike are so aggressive.. the thing is, in all countries around the world – even in the most democratic countries- u will find people who are totally against teachers’ strike, due to the negative affect it has on the education of kids, however these ppl are only called sa7eejeh in Jordan!!
    My personal opinion is :

    1-Teachers are being mistreated and underpaid for so long, and I do believe they deserve whatever raise they are asking for, however I’m against their strike! And although I do really hope they end up having better salaries and better conditions, however, I HOPE they come up with a plan to hold teachers accountable..

    2-The fatwa thing was a huge mistake, one day they will realize that Jordanians are immune to such desperate fatawa!

    3- As for Dr. Mohammed Nouh, I personally feel he is being attacked for no reason, ya3ny he is trying to fill the gap and trying to solve the problem, why should we attack him! He did not say anything against the teachers! All he did was creating channels for teachers to communicate through; he was trying to diffuse the tension rather than escalating it! So I don’t understand where he went wrong!

    Democracy is all about having an equal say in the decisions that affect ppls lives, which means as a parent I have the right to say no to the strike, but that does not make me sa7eejeh! And teachers have the right of going on a strike without being called traitors!

Leave a comment